التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

63 - تفسير (الذي جعل لكم الأرض فراشا..)

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

01

2025 | يونيو

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا...)

 

تفسير قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). 

هذه الآية (22) من سورة البقرة تتمة للآية السابقة (21) التي تقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). 

الآية السابقة ذكرت أولًا التوحيد العبودي (اعْبُدُوا)، ثم ذكرت التوحيد الربوبي (رَبَّكُمُ)، ثم ذكرت التوحيد الخالقي (الَّذِي خَلَقَكُمْ). ففي الآية واحد وعشرين ذكرت ثلاثة أنواع من التوحيد: 

- فُرِّع التوحيد في العبودية (أن يكون المعبود واحدًا) على التوحيد في الربوبية (أن الرب والمدبر للكون واحد). 

- وفُرِّع التوحيد في الربوبية على التوحيد في الخالقية (أن الخالق واحد). 

فهناك ملازمة بين الخالق الواحد والرب والمدبر الواحد، أي أن الخالق واحد، والرب واحد، والمعبود واحد. 

ثم ذكرت الآية الكريمة آيات أنفسية وآيات آفاقية، وقد أمر القرآن الكريم بالتدبر في النفس وفي الآفاق (أي ما عدا النفس من أمور الكون)، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). 

الآية الكريمة قالت: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فقوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) إشارة إلى الآيات الأنفسية (أي تأملوا في خِلقة أنفسكم)، فالتأمل في النفس وخلق الإنسان هو تأمل في الآيات الأنفسية. 

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هذه آيات آفاقية، فالنفس الإنسانية واحدة سواء كانت نفسي أو نفوس الآخرين، لكن التأمل في شؤون نفسي من الآيات الأنفسية، والتأمل في شؤون نفوس الآخرين من الآيات الآفاقية. 

ثم قالت الآية: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، هذه الغاية وهي التقوى، إما أن تُرتب على الخلق (بمناسبة المجاورة لقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). 

وقد تترتب هذه الغاية (وهي التقوى) على العبادة، بأن يُرجع قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إلى قوله في صدر الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)، فتكون الغاية والنتيجة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). 

والوجه الثاني هو الصحيح، إذ أن صدر الآية (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) فيه أصل الفكرة وأصل المطلب، وتتمة الآية (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هذه التتمة وتفريع في الآية الكريمة. 

فالآية الكريمة تشير إلى أنك إذا أردت التقوى فعليك بالعبادة، أي أن أرضية زرع التقوى هو العبادة. والتقوى ذات مراتب، والعبادة ذات مراتب، فإذا أراد الإنسان أن يزداد في التقوى فعليه بالازدياد في العبادة. فأرضية نشوء التقوى وازدهارها هي العبادة. 

ونُصَّ على خَلْقه للناس والذين من قبلهم؛ لأن بعضهم عبد آباءه الأولين، فأراد أن يقول لهم: إن آباءكم مخلوقون مثلكم، وأن آباءكم قد اشتبهوا في عبادة الأصنام وعبادة غير الله، فارجعوا إلى الله. 

وبما أن الخطاب للناس وعموم الناس، جاء القرآن الكريم بمنبهات وجدانية في الكون لعامة الناس: فخلق الأرض وجعلها فراشًا، وخلق السماء بناءً، وأنزل الماء من السماء، وأخرج الثمرات من الأرض، وجعلها رزقًا للناس. 

ففي هذه الآية (22) يذكر الباري تبارك وتعالى التوحيد في الربوبية، فهذه المصاديق (وهي جعل الأرض فراشًا، والسماء بناءً، وإنزال الماء، وإخراج الثمرات) إشارة إلى تدبير الله للكون والعالم، فالمدبر والرب للسماوات والأرض واحد. 

إذن، هذه الآية (22) تشير إلى التوحيد الربوبي، فأشارت إلى نظام الخلق وأن الرب واحد، والمدبر للسماء والأرض وما يتعلق بهما واحد. ثم فرع على ذلك قائلًا: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي لا تجعلوا لله شركاء وأنتم تعلمون بحكم فطرتكم أن الرب واحد. 

إذن، إدارة شؤون العالم الكلية والجزئية جميعها بيد الله مباشرة. نعم، وضع الباري تبارك وتعالى نظام الأسباب والمسببات والعلل المعدة، فالماء ونزوله علة معدَّة لنبات الزرع وخروج الثمرات، لا أن الماء هو العلل الحقيقية والفاعلية، بل هو علة معدَّة، كالنجار الذي هو علة معدَّة لصناعة الكرسي والطاولة، لا أنه خالق خشب الكرسي والطاولة حقيقة. 

وهذه الأمور التي ذكرت كلها آيات آفاقية: خلق السماء والأرض، ونزول الماء، وخروج الثمرات، هذه كلها آيات آفاقية. 

بيان مفردات الآية مفردة مفردة: 

قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا). 

- المفردة الأولى: (الَّذِي) 

  اسم موصول، وهذا الاسم الموصول مع صلته (جَعَلَ لَكُمُ) هو صفة ثانية لقوله (رَبَّكُمْ) في الآية السابقة. 

  فسر الآية هكذا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا). 

  إذن، أول صفة: (الَّذِي خَلَقَكُمْ)، ما هي الصفة الثانية؟ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا). 

  إذن، يتعين على الناس أن يعبدوا ربهم الذي له صفتان: 

  - الأولى: أنه خالقهم وخالق آبائهم. 

  - الثانية: أنه جعل الأرض والسماء والمطر والثمر لتأمين رزق الناس. 

- المفردة الثانية: (جَعَلَ) 

  المراد من (جعل) هنا هو جعل الشيء في حالة خاصة، أي الجعل التركيبي (كجعل المعاجين)، ولذلك يأخذ مفعولين. 

  وهذا يقودنا إلى بيان معاني (جعل) واستعمالاتها، وهي ثلاثة: 

  1. الجعل بمعنى الصيرورة، وحينئذ لا يكون متعديًا، تقول: "قام أمير المؤمنين خطيبًا فجعل يقول"، أي فصار يقول. 

  2. الجعل بمعنى الإيجاد، فيتعدى لمفعول واحد، كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) [الأنعام: 1]. 

  3. الجعل بمعنى التحويل والتصيير، وهذا يتعدى إلى مفعولين، كالآية الكريمة: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا)، أي صيَّر لكم الأرض وحوَّلها فراشًا. 

     - المفعول الأول: الأرض. 

     - المفعول الثاني: فراشًا. 

     وكذلك: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، المفعول الأول: السماء، المفعول الثاني: بناءً. 

- المفردة الثالثة: (لَكُمُ) 

  اللام في (لَكُمُ) هي لام الغاية والفائدة، وليست لام العلة الغائية، أي أن التدابير المذكورة بين الأرض والسماء لأجلكم، أي من أجل تأمين مصالح البشر. 

- المفردة الرابعة: (الْأَرْضَ) 

  الأرض اسم جنس، وتطلق على كل ما يقابل السماء. والسماء ذات مراتب، لذلك نُصَّ على إفرادها في القرآن الكريم (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، ونُصَّ على جمعها (السماوات)، بخلاف الأرض فإنها لم تذكر في القرآن الكريم مجموعةً بل ذكرت مفردة فقط: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ). 

  نعم، ورد في سورة الطلاق (الآية 12): (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، لكن لفظ الأرض لم يذكر بلفظ الجمع في القرآن الكريم. 

  نعم، ورد في الأدعية الشريفة والروايات: "سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا فَوْقَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ". 

  والمقصود بجعل الأرض فراشًا أنها سهلة الانتفاع للإنسان، فعُبِّر عنها بعدة صفات: 

  - الفراش. 

  - البساط. 

  - المهاد. 

  ولها جامع واحد، وهو سهولة الانتفاع بالأرض من قبل الإنسان. 

  قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ: 6]. 

  وقال تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) [نوح: 19]. 

  وفي موطن بحثنا: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا)، فوصف الأرض بالفراش والبساط والمهاد يُراد به – طبعًا – أن هذه التعابير لها خصوصيات تختلف فيها، ولها جامع يجمعها، وهو سهولة الانتفاع بها. 

  ولفظ (الأرض) في القرآن الكريم قد يُطلق على منطقة معينة من الأرض، كقوله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة: 21] (أي فلسطين)، وقوله تعالى: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ) [الأحزاب: 27]. 

وأحيانًا يُراد بالأرض كل الأرض، أي الكرة الأرضية، كقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) [الحجر: 19]، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا) [المرسلات: 25]. 

وأحيانًا يُطلق لفظ (الأرض) ويراد به عالم الملك، أي عالم الأجساد والشهادة، في مقابل عالم الملكوت، أي عالم الأرواح وعالم الغيب. قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هنا (السماوات) إشارة إلى عالم الغيب والأرواح، و(الأرض) إشارة إلى عالم الملك، يعني عالم الشهادة (الأمور التي نشهدها). 

قال تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (فِي السَّمَاوَاتِ) أي عالم الملكوت (عالم الأرواح، عالم الغيب الذي هو غائب عنه)، (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هنا (وَالْأَرْضِ) أي عالم الملك (عالم الشهادة) [الروم: 27]. 

(السماء) من السمو والرفع، وتطلق (السماء) على الجهة المقابلة للأرض. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) [الأنبياء: 32]، فتطلق (السماء) على كل ما يقابل الأرض. 

المفردات: 

1. (الَّذِي) 

2. (جَعَلَ) 

3. (لَكُمُ) 

4. (الْأَرْضَ) 

5. (فِرَاشًا) 

6. (وَالسَّمَاءَ) 

7. (بِنَاءً) 

المراد بالبناء: هو وضع الشيء على الشيء في نظام محكم، فالسماء بُنيت وخُلقت بإحكام وإتقان. 

ثم قال تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، أي المطر، (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، الباء في قوله (بِهِ) هي باء السببية، وهنا يُقرّ الله عز وجل نظام الأسباب والمسببات في العالم العيني، فهو يقول: هو مسبب الأسباب، وهو الخالق المباشر، لكنه جعل عللاً معدَّةً كالمطر الذي ينزل من السماء والغيث، وتكون له الآثار. 

مفردة (الثَّمَرَاتِ): 

الثمر هو كل ما ينتج عن شيء ويتولد منه، سواء كان مطلوبًا أو غير مطلوب، ماديًا أو معنويًا، لكن المراد بالثمر هنا خصوص ما يستفيد منه الإنسان، كالفواكه وما يستفيد منه الإنسان من الأرض. 

(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا)، (أَنْدَادًا) جمع (نِدّ)، والنِدّ ليس بمعنى المثل والشبيه، فالنِدّ أُخذ فيه ثلاثة عناصر: 

1. المقابلة. 

2. المخالفة. 

3. ادعاء المماثلة. 

فند الله يعني شريك الله، أُخذ فيه هذه الأمور الثلاثة: أنه يقابل الله، ويخالف الله، ويدعي أنه مثل الله. 

(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا)، أي لا تشركوا بالله، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي بوحي فطرتكم، لأن العلم إما فطري وإما اكتسابي، والأصل في الإنسان هو العلم الفطري. 

وهذه الآية فيها عقدان: 

1. عقد إيجابي: (اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا). 

2. عقد سلبي: هو التفريع (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا)، أي لا تشركوا بالله. 

سؤال: لماذا قُدِّم العقد الإيجابي على العقد السلبي؟ 

الجواب: العقد الإيجابي هو مقتضى الفطرة، مقتضى الفطرة هو التوحيد في العبادة والربوبية والخالقية، ويتفرع على ذلك نفي الشريك. فإذا أقر الإنسان بوحي فطرته بالتوحيد في العبادة والربوبية والخالقية، فإنه يتفرع على ذلك نفي الشريك. 

هذا تمام الكلام بشكل موجز، وإلا فهناك تفاصيل في الآية (23) تتحدث عن التحدي القرآني: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وسيأتي عليها الكلام إن وفقنا الله في العام المقبل. 

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

00:00

01

2025
| يونيو
جلسات أخرى من هذه الدورة 63 الجلسة

01

يونيو | 2025
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
63 الجلسة