بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الاعتكاف في مسجد الإمام حسن العسكري (عليه السلام)

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم وخطابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" آمنا بالله صدق الله العلي العظيم.

الحديث عن "الاعتكاف في مسجد الإمام الحسن العسكري بمدينة قم المقدسة". فما هو معنى الاعتكاف، وماذا تعرف عن مسجد الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليه؟

ولنبدأ بإطلالة تاريخية عن مسجد الإمام الحسن العسكري، أحد الرواة اسمه أحمد بن إسحاق الأشعري القمي، يُلقب بوفد الأئمة لأنه وفد على أربع من الأئمة، أي أنه رأى أربعة من الأئمة المعصومين: أولهم الإمام محمد الجواد، الثاني علي بن محمد الهادي، الثالث الحسن العسكري، والرابع محمد بن الحسن القائم المهدي.

أحمد بن إسحاق دخل على الإمام الحسن العسكري فأعطاه مبلغاً، وقال له: إذا رجعت إلى قم فابنِ مسجداً، فبنى المسجد القديم الموجود هنا، وإلى الآن معالمه بارزة، فكان مسجد الإمام الحسن العسكري من أيام الإمام الحادي عشر الحسن العسكري، ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا المسجد له مقام مشهود ومعروف، واعتنى به أصحاب الأئمة عليهم السلام، وتوالت فيه التوسعة والتعديلات.

فعنت الدولة الصفوية ثم الدولة القاجارية، فقام ناصر الدين شاه بتوسعة مشهودة في هذا المقام، إلى أن نصل إلى زمن مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، سماحة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري رحمه الله، أستاذ الإمام الخميني، وجاء من بعده ولده الصالح آية الله الشيخ مرتضى الحائري اليزدي، أستاذ الإمام القائد الخامنئي حفظه الله.

والشيخ آية الله مرتضى الحائري اليزدي هو أول من أقام الاعتكاف في كل إيران، بل في كل قم، بل في مسجد الإمام الحسن العسكري.

فإذاً، أول اعتكاف في إيران أقامه آية الله الشيخ مرتضى الحائري اليزدي قبل مئة عام، نحن نعيش اليوم الذكرى المئوية لإقامة الاعتكاف في إيران، وفي هذه الأيام من رجب وأنتم معتكفون في مسجد الإمام الحسن العسكري، أسألكم هذا السؤال: في هذا العام كم معتكف قد اعتكف في مساجد إيران؟

الجواب: مليون معتكف يعتكفون الآن في مساجد إيران، حتى قال المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي إن اعتكاف المعتكفين هو مظهر حفظ ماء وجه الجمهورية الإسلامية، فماء وجه الجمهورية الإسلامية يتمثل في هؤلاء العباد الذين اعتكفوا في بيت الله وفي بيوت الله.

وتوالت التوسعات في الحرم وفي مسجد الإمام الحسن العسكري، وآخر توسعة كانت بأمر سماحة آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني، واشترى الأراضي التي حول المسجد القديم، وتوفي السيد الگلپايگاني، وجاء من بعده صهره، سماحة آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، واكتملت توسعة هذا الحرم؛ الأرض أربعة آلاف ومئة وسبعين متراً، وتم بناء خمسة وعشرين ألف متر في زمن آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي.

هذا المكان مهبط الملائكة، فمسجد الإمام الحسن العسكري اجتمعت فيه ثلاث أو أربع أو خمس أمور مهمة تستدعي هبوط الملائكة.

الأمر الأول: صلوات الجماعة اليومية، وهذه موجودة في كل المساجد.

الأمر الثاني: صلاة الجمعة في مدينة قم المقدسة، فقد كان يقيم صلاة الجمعة سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي الخونساري، ومن بعده أقام صلاة الجمعة في مسجد الإمام الحسن العسكري سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد علي الأراكي رحمة الله عليهما.

وكان أبو الفتوح السيد روح الله الموسوي الخميني رضوان الله عليه إمام الأمة الراحل، يواظب على حضور صلاة الجمعة خلف السيد الخونساري والشيخ الأراكي في مسجد الإمام الحسن العسكري، يعني أنتم في مسجد كان السيد الإمام الخميني يحضر إليه كل يوم جمعة.

الأمر الثالث: أبحاث الخارج، فسماحة آية الله السيد رضا الصدر كان بحثه الخارج هنا عدة سنوات، وكذلك آية الله ستوده كان يباحث الخارج فقهاً وأصولاً في هذا المكان.

الأمر الرابع: الاعتكاف، وما أدراك ما الاعتكاف؟!

والأمر الخامس: قراءة القرآن.

وبما أن موضوعنا هو عن الاعتكاف، فما هو معنى الاعتكاف؟

الاعتكاف في اللغة هو عبارة عن اللبث وتوجيه النفس إلى شيء معين. لذلك، الاعتكاف كما يكون في الخير، أيضاً يكون في الشر، في اللغة العربية يعكفون على الأصنام، والآية تقول: يكونون ماذا لها عاكفين، يعكفون على عبادة الأصنام. هنا، استخدمت هذه المفردة في القرآن الكريم، يعني هؤلاء عبدة الأصنام كانوا يلبثون ويتوجهون بكلهم إلى ذلك الصنم، هذا الاعتكاف في أمور السوء.

وهناك اعتكاف في أمر الخير، إذا لبثت في مكانين وتوجهت نفسك إلى الله، فهذا اعتكاف للخير، ومنه أخذت مفردة الاعتكاف في الفقه، فيراد بالاعتكاف اللبث في المسجد والتوجه إلى الله تبارك وتعالى.

والمعتكف تشمله أحكام الصائم وأحكام المحرم، فكما يجب على الصائم الصيام والامتناع عن المفطرات من الأكل والشرب طوال النهار، كذلك يحرم على المعتكف ذلك. كما تشمله أيضاً بعض محرمات الإحرام كالطيب، فالطيب محرم على المحرم لمن أحرم للعمرة أو الحج، كذلك استعمال الطيب والعطر محرم على المعتكف، وكذلك الجماع والمقاربة، كما يحرم على من أحرم للعمرة أو الحاج، كذلك يحرم على المعتكف، لذلك، الآية التي صدرنا بها الكلمة: "وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ"، أي يحرم الجماع وأنتم عاكفون في المساجد.

إذن، المراد بالاعتكاف هو اللبث في المسجد والتوجه إلى الله وعبادة الله تبارك وتعالى.

وهناك أحكام فقهية مختلفة، أنه لا بد أن يكون الاعتكاف في جامع المدينة أو المسجد الذي هو مسجد رئيسي في المنطقة، وما شاكل ذلك يبحث الفقه. المهم هو ما هي الفوائد التي تترتب على الاعتكاف؟

من أهم الفوائد: الانقطاع إلى الله.

النبي أبو القاسم محمد كان يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان من كل عام، ينقطع إلى الله، الإنسان كان يحس بأنه يأنس بالمحسوسات، فقد تأخذه الدنيا وبحاجة إلى فترة ينقطع فيها إلى الله تبارك وتعالى.

النبي كان يخرج من مكة ويتعبد في غار حراء، المؤمن بحاجة إلى الخلوة، أن يختلي بنفسه، أن يناجي ربه تبارك وتعالى، بحاجة إلى التفرغ.

أعجبتني مقولة تقول: "لا تقرأ القرآن في وقت فراغك، بل فرغ وقتك لقراءة القرآن"، بعض الناس لا يوجد عنده برنامج للدعاء أو وقت للقرآن، ينظر إذا صار فارغاً، وصار عنده فراغ، وفي هذا الوقت يقرأ القرآن، في هذا الوقت يقرأ الدعاء، وما يصير عنده وقت فراغ، وبعض الناس بالعكس، يفرغ من وقته وينظم وقتاً للدعاء ووقتا لقراءة القرآن.

أيضاً التعبد والتهجد، ومنها الاعتكاف، يحتاج الإنسان أن يفرغ من وقته لقراءة القرآن والصلاة والتعبد والتهجد والصيام.

سؤال: الدنيا فيها شرور وخيرات، فما هو أساس الخير وما هو أساس الشر؟

الجواب: أساس ومنبع كل الخيرات كلمة واحدة: القيام لله، وأساس جميع الشرور في العالم كلمة واحدة: القيام للنفس.

يا أخي! أنت الآن تستمع لي، هل تستمع لله أم للنفس؟ هذا المتكلم الذي يتكلم، هل يتكلم بهذه الكلمات لله أم للنفس؟ هذا المعتكف الذي يعتكف، هل يعتكف لله أم للنفس؟ إذا راقبت نفسك في جميع محركاتها وسكناتها، حتى وأنت تأشر، كذلك حتى وأنت تسلم، كذلك وأنت تتكلم، إذا راقبت نفسك بحيث كل شيء لله وحده لا شريك له، فأنت إلهي.

لكن إبليس الرجيم وأعوانه يعملون على مزج وخلط هذه النية فيخلط ما لله بما ليس لله، وهنا تكمن الآفة.

من أهم ثمار الاعتكاف أن يعود الإنسان نفسه ويمرنها على الإخلاص لله، وأن لا يرى شيئاً إلا الله عز وجل، ولا يرى شيئاً غير الله تبارك وتعالى، والاعتكاف فرصة ثمينة لتقوية القيام لله وتضعيف القيام للنفس.

هناك كتاب عظيم للسيد الإمام الخميني اسمه "جنود العقل وجنود الجهل"، جنود العقل يعني جنود الرحمن. يذكر قرابة ثلاثة وسبعين جندياً، يعني ثلاثة وسبعين وسيلة تؤدي إلى الرحمن، وجنود الجهل يعني جنود إبليس الرجيم، يذكر أيضاً عدد كبير يؤدي إلى الجهل وإلى الشيطان، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى الله، ينبغي أن يتأمل في هذه الجنود، لأن النفس ومكامن النفس بالغة الدقة، تحتاج إلى دقة في تشخيص أن هذا العمل هو لله أو للشيطان أو للنفس.

ويذكر الشهيد دستغيب رضوان الله عليه قصة، يقول: رأى أحدهم إبليس، فقال الرائي لإبليس: اغرب عن وجهي اغرب، فقال: وما الخطب؟! قال العالم فلاني كتب كتاباً في أحابيل إبليس وفضحك فيها. وإذا بإبليس يضحك، فقال له: لماذا تضحك؟ فقال إبليس: هذا العالم أصلاً لم يكتب الكتاب إلا بأمري. قال: وكيف ذلك؟ قال: جئت له وسوست له وقلت له عن أحابيله لكي يقول الناس: أنت عالم مهذب، قد أتعبت نفسك ولديك خبرة في معرفة حيل إبليس.

إذن، تشخيص هذا الفاصل بين القيام لله والقيام للنفس يحتاج إلى تعمق أمور كثيرة، مثلاً: إذا كنت تحب أن يثني الناس عليك، أو لا؟ إذا أحببت أن يمدحوا على عملك، فاعلم أن هناك شائبة من شواهب إبليس، وإذا أحببت أن يطلِّعوا على عملك، فاعلم أن هناك شائبة من شواهب إبليس.

يقال إن أحد الأنبياء أوحى الله إليه فقال له: إذا مشيت فأول شيء تراه، ادفنه، وثاني شيء تراه، اعمل كذا، الرواية طويلة تشير إلى فلسفات متعددة، فلما مشى أول ما رآه كان كنزاً ثميناً فدفنه، وإذا بالكنز يرتفع ويخرج من الأرض. فقال النبي: إن الله قد أمرني أن أدفن الكنز، وقد خرج فلا حاجة لدفنه مرة أخرى، لأنني قد امتثلت أمر الله ودفنت الكنز، فلما جاء لمناجات ربه سأل: هذا الكنز يرمز إلى ماذا؟ فأتاه النداء والجواب: هذا الكنز هو العمل الصالح فإن المؤمن يحرص على كتمان عمله، وعلى أن يكون سراً فإذا التزم المؤمن بدفن عمله، كُتبت على نفسي أن أخرجه كما أخرج هذا الكنز من الأرض التي دفن فيها، هذا الشكل رب العالمين قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا.

هذا الود والمحبة شغل رب العالمين، وليس شغلي وشغلك. وإلا نحن في بلدان مختلفة، أحببنا الإمام الخميني، أحببنا الإمام الخامنئي، والكثير من الشعوب لا يعرفون عنهما شيئاً، ولكن الله عز وجل هو الذي يلقي بالمحبة والمودة في قلوب المؤمنين.

هنياً لكم يا من وفقتم للاعتكاف، يا من وفقتم للتعبد والتهجد والصيام والقيام، كلما زاد الإخلاص، كلما زادت المثابرة، وكلما تجلت الكثير من المعنويات التي إن كتمتها أيها المؤمن، فإن الله عز وجل سيخرجها في الوقت المناسب.

أسألكم الدعاء كثيراً.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين